دراسة علمية مثيرة عن الانطباعات الأولى لمقابلة شخص لأول مرة

تشير بعض الأبحاث إلى أن تكوين انطباعنا الأول عن الأشخاص الذين نلتقيهم لأول مرَّة، لا يستغرق أكثر من 7 ثوانٍ فقط. وفيما يعتمد الانطباع الأول عادةً على الإشارات المرئية مثل الملبس ولغة الجسد والهويات الظاهرة كالعِرق أو الجنس، إلا أن الإشارات الصوتية مثل اللهجة وطريقة نطق الحروف والكلمات يمكنها أن تترك في بعض الأحيان انطباعاً أكبر، وهذا ما أكَّد عليه بالفعل علماء النفس في جامعة فريدريش شيلر في ألمانيا، الذين قالوا إنه في ما يتعلق بالانطباع الأول قد تكون: “اللهجة أهم بكثير من مظهر الشخص الخارجي”. فالصوت والطريقة التي تنطق بها الكلمات هي بمثابة وجوه سمعية يمكنها أن تقدِّم كثيراً من الأدلة على هويتنا وأصولنا وخلفيتنا الاجتماعية والثقافية.

يقول العالِم اللغوي ماكس فاينرايخ بان: “اللغة هي لهجة لديها جيش وأسطول”، بمعنى أنه لا يمكن لأي تواصل لغوي أن يصبح لغة بدلاً من مجرد لهجة، إلا عندما يكون للناس الذين يتواصلون به نوع من الاستقلالية السياسية وعندما ينتمون إلى دولة لها جيش وأسطول.
إلى جانب ذلك، يمكننا القول أيضاً إن اللغة هي مجموعة من اللهجات التي تكون في العادة أقل انصياعاً لقواعدها العامة. إذ من المؤكد أن لكل لغة من اللغات الموجودة في العالم اليوم مجموعة من اللهجات المختلفة. فللغة جذور وأصول وخارطة طريق ترتحل من خلالها عبر الزمان والمكان فتتبدل وتمتزج وتكتسب طرائق نطق متغيرة وحتى اختلافات في تطبيق قواعدها النحوية نفسها. ولعل أبرز عاملين يؤثران على تكوين لهجة ما هما الطبيعة البشرية والعزلة الجغرافية.

دور التباعد الجغرافي

تشير الطبيعة البشرية ببساطة إلى حبنا الفطري لوجودنا في مجموعات تكون في ما بينها قواسم مشتركة، مثل أنماط معيَّنة من الملبس والمأكل والعادات المختلفة، بالإضافة إلى التحدث بطريقة خاصة يمكن وصفها باللهجة التي تصبح جزءاً مهماً من هوية المجموعة نفسها. وبمرور الوقت تتطوَّر المجتمعات التي تتحدث اللغة نفسها، ولكنها تعيش في مساحات جغرافية منفصلة عن بعضها بعضاً. وعندما يصبح المتحدثون باللغة نفسها معزولين في منطقة معيَّنة، يبدأون مع الوقت، بالاتفاق، وبطريقة تلقائية، على ألفاظ خاصة مما يؤدي إلى نشوء “رموز” محلية للكلام وهو ما نطلق عليه اللهجة التي قد تتطوَّر إلى لغة جديدة في بعض الأحيان.
فالتباعد الجغرافي هو الذي أحدث هذا التمييز في أشكال اللغة البرتغالية التي يتم التحدث بها في العالمين “الجديد” و”القديم”. إذ بدأ كلاهما بنفس اللغة الأم، لكن اللغة البرتغالية الخاصة بالبرازيل تختلف بشكل واضح عن تلك الموجودة في البرتغال، والشيء نفسه ينطبق على الإسبانية التي يتم التحدث بها في إسبانيا وتلك التي يتم التحدث بها في أمريكا اللاتينية. وهناك اللغة العربية التي تُعدُّ مثالاً رائعاً آخر على الاختلاف اللغوي نتيجة التباعد الجغرافي. فهناك العربية التي تبتعد بألفاظها كثيراً عن اللغة الفصحى وهناك التي تكون قريبة منها (وقد تكون لهجة أهل بغداد الأقرب إلى اللغة العربية الفصحى، وذلك حسب عميد الأدب العربي طه حسين الذي عبَّر عن سعادته عند سماعه لهجة أهل بغداد، وقال عنها إنها أقرب لهجة إلى اللغة العربية الفصحى). لكن اللهجات العربية المنطوقة في البلدان المختلفة بالإجمال ليست مفهومة بشكل متبادل دائماً. وذلك لأن امتداد العربية على مساحة جغرافية واسعة في بلدان متعدِّدة سمح بتنوُّع اللهجات فيها، فانقسمت إلى أربع لهجات إقليمية رئيسة متميزة وهي العربية في المغرب العربي والعربية المصرية والعربية الشامية والعراقية / الخليجية، ناهيك عن اختلافها اختلافاً كبيراً داخل البلد العربي الواحد لا سيما في المملكة العربية السعودية التي تُعدُّ أكثر البلدان العربية تنوُّعاً من حيث اختلاف اللهجات بحيث تضم نحو 23 لهجة مختلفة، وذلك حسب الباحث السعودي سليمان الدرسوني في كتابه “معجم اللهجات المحكية في المملكة العربية السعودية”.

لهجتنا جزء من هويتنا

george-bernard-shaw

من حيث تعريفها، اللهجة هي الطريقة التي تلفظ بها الكلمات والحروف من خلال تركيبة معيَّنة في الأصوات المنطوقة. ففي العربية يمكن أن ينطق حرف القاف بإبداله بالكاف كما في الخليج العربي أو بإبداله بالهمزة في مصر وسوريا، ويمكن أن ينطق حرف الصاد بالسين أو حتى بالزين، إذ هناك من قد يسمي الصقر “سقراً” أو حتى “زقراً” وهناك من يستبدل الكاف بالشين عند نطقه بكلمة “حكي” وما إلى هنالك. وفي الإجمال، سواء أشئنا أم أبينا، لكلٍّ منا لهجة معيَّنة حتى لو كان البعض يعتقد بأنه يتحدث بـ “لهجة بيضاء” واضحة للجميع، لأن أي طريقة نطق ضمن مجموعة متنوِّعة من اللهجات داخل اللغة الواحدة هي من حيث تعريفها اللغوي لهجة. وعند اكتسابها، تصبح لهجتنا جزءاً لا يتجزأ من هويتنا وتمنحنا إحساساً بالارتباط بالعائلة والأصدقاء والمجتمع الذي ننتمي إليه.
فقوتنا الصوتية أساسية بالنسبة لهويتنا، كما أن إحساسنا بذاتنا يتأثر بشكل كبير بتفاعلاتنا المنطوقة مع الآخرين. وعندما نتحدَّث باللهجة الخاصة بنا، نكشف عن بعض من ذواتنا ونجعلها مرئية لمن حولنا، فتكون المؤشر الأصدق إلى هوياتنا الثقافية والاجتماعية وحتى الجغرافية. وفي هذا الإطار تقول الكاتبة الأمريكية المتحدِّرة من ولاية فرجينيا في الجنوب الشرقي للولايات المتحدة إيميلي هاكني في مقالة كتبتها في مجلة “هارفارد كريمسون” وهي تصف لهجتها: “تنطلق الكلمات على مهل من فمي فتنزلق من على لساني وكأنها تحاكي مد القمم والوديان السلسة لجبال الأبالاش التي نشأت في أحضانها؛ تمتد أحرف العلة الطويلة مثل الوديان وتتساقط الحروف الساكنة أسفل خطوط التلال المائلة في تقلصات متتالية … فلهجتي المميزة هي المعرِّف الخاص بي”.

لماذا نتحيَّز ضد لهجات معيَّنة؟

من جهة أخرى، تجعلنا لهجاتنا عُرضة للأحكام السريعة والقوالب النمطية. وهذا ما أكدته الأستاذة المتخصصة في علم النفس في جامعة سنترال فلوريدا زي وانج، عندما قالت: “يمكن أن تؤدِّي اللهجة إلى التصنيف الاجتماعي بطريقة سريعة وتلقائية وغير واعية في بعض الأحيان”. وقد أظهرت الأبحاث أن الأمر يستغرق أقل من 30 ثانية لتكوين ملف تعريف لغوي للمتحدث واتخاذ قرارات سريعة بشأن أصله العرقي وطبقته الاجتماعية والثقافية وخلفيته العلمية.
فلدى البشر تحيُّز يعتمد على اللهجات بطريقة لاواعية ومن دون أن يدركوا ذلك. ولكن من أين ينبع هذا التحيز؟
يعود الأمر إلى طفولتنا الأولى، فمنذ اللحظة التي نولد فيها، نسمع أصواتاً نتعرَّف عليها مثل نبضات القلب والموسيقى التي كنا قد سمعناها في رحم الأم وصوت الأم ولهجتها المألوفة. ومنذ ذلك الوقت يتولد لدينا شعور بالثقة بلهجة معيَّنة. ففي إحدى التجارب، كرَّر باحثون كلمة مسجلة على مسامع أمهات حوامل، فتبيَّن، من خلال رسم لأدمغة أطفالهن بعد الولادة، أن الأطفال أظهروا تجاوباً ظاهراً مع تلك الكلمة، بينما لم يتجاوب الأطفال الذين لم تتكرَّر الكلمة على مسامعهم وهم في رحم أمهاتهم. وفي عمر خمسة أشهر فقط، تبيَّن أن الأطفال يفضلون النظر صوب الشخص الذي يتحدث بلهجة مألوفة بالنسبة إليهم أكثر من شخص آخر يتحدث بلهجة غريبة. وبعد عشرة أشهر يتحوَّل هذا التفضيل إلى ثقة.

ففي تجربة أجريت في جامعة هارفارد عام 2007م، وضع الأطفال أمام شاشة شاهدوا من خلالها شخصين، أحدهما كان يتحدث بلهجة مألوفة والآخر بلهجة غريبة. ومن ثم عرض كل متحدث على الأطفال دمية ظهرت فجأة من وراء الشاشة، فكان الأمر أن فضَّل الأطفال الدمية التي قدَّمها الشخص المتحدث بلهجتهم الأصلية. وهذا ما أكَّدت عليه كاثرين كينزلر الباحثة اللغوية التي قامت بتلك الدراسة فخلصت إلى القول بأن الأطفال “يبدأون منذ عامهم الأول الميل نحو المتحدث بلهجة معهودة بالنسبة لهم”. ولكن عندما يصبح الطفل في سن العاشرة، يبدأ بربط اللهجات المختلفة بقِيم معيَّنة يستمدها من القوالب النمطية الموجودة حوله في أفلام الأطفال والرسوم المتحركة، حيث يكون للأشرار باستمرار لهجات معيَّنة، ومن القصص والنكات والأخبار التي يسمعها في محيطه الاجتماعي الخارجي. وبمرور الوقت تتجذَّر هذه التحيزات لتتبادر إلى الأذهان تلقائياً مع كل تفاعل جديد مع شخص غريب وفي مواقف مختلفة، عندما يسأل الشخص نفسه: هل أثق في هذا التشخيص الطبي أو أطلب رأياً ثانياً؟ وهل تستحق هذه الفكرة التجارية الاستثمار فيها؟ هل تبدو هذه النصيحة مفيدة أم لا؟ حيث تشير الأبحاث إلى أنه، إلى جانب أمور أخرى، تتعلَّق الإجابة على مثل هذه الأسئلة باللهجة التي نسمع بها مثل هذه الأمور.

التحيُّز واللهجة المعيارية

بعيداً عن تفضيلنا للهجة المألوفة لدينا وثقتنا بها، هناك سبب آخر للتحيُّز في ما يتعلق باللهجات وهو أن الناس، وفي كل بلد من البلدان، يكوّنون وجهة نظر هرمية للهجات وفقاً للقبول المجتمعي والثقافي لها، فيخصِّصون لكل منها قيماً مثل الرقي والهيبة وكذلك الذكاء، أو بالعكس يعتقدون أنها مصدر للسخرية والتنكيت، أو ربما ينظرون إليها نظرة دونية كونها نشأت في نطاق جغرافي ينتشر فيه الفقر والأمية. وبالتالي يمكن القول إن لكل لهجة قيمة وإن هناك فكرة سائدة في بلدان كثيرة أن بعض اللهجات تُعدُّ أفضل من غيرها، وهي التي تتميَّز وتكون اللهجة المفضَّلة التي يجب تقليدها وتبنيها من قبل الآخرين.
في كتابها “الإنجليزية مع لكنة” تشير الكاتبة الأمريكية روزينا ليبي-غرين إلى ما تسميه “أيديولوجية اللهجة المعيارية”، حيث يعتقد كثير من الناس أن اللهجة التي تتمتع بأعلى مكانة اجتماعية هي أيضاً الشكل الصحيح الوحيد للغة. والجدير بالذكر أن قيمة هذه اللهجة المعيارية لا تتعلق بعوامل موجودة داخل اللهجة نفسها ولا في أي من الجوانب الصوتية أو التركيبية أو الدلالية لها، وإنما تكون قيمتها مرتبطة بعوامل اجتماعية وثقافية تتعلق بالسلطة التي تفرضها الأوساط الاجتماعية النافذة فيها.
قد تكون مسرحية “سيدتي الجميلة” أو “بجماليون” التي كتبها جورج برنارد شو في 1913م، أبرز الأعمال الأدبية التي تعاملت مع أهمية اللهجة وأشارت إلى اللغة المعيارية من خلال قصة هنري هيغينز الأستاذ في علم الصوتيات الذي عقد رهاناً مع صديقه العقيد بيكرينغ على قدرة هيغينز في تقديم بائعة الأزهار إليزا دوليتل التي تنتمي لطبقة الـ Cockney (الطبقة الدنيا في مجتمع لندن) كسيدة مجتمع مثقفة، بتعليمها كيفية التحدث بلهجة المنتمين للطبقة العليا التي كانت هي بمثابة اللهجة المعيارية في المجتع الإنجليزي. وقد اعتبر البروفيسور هيغينز أن لهجة إليزا الجديدة ستغيِّر هويتها وتمنحها بطاقة دخول إلى طبقة لندن العليا عندما قال في إعادة تشكيله لإليزا: “سأحولها إلى إنسان مختلف من خلال خلق لهجة جديدة لها”.
أخيراً، علينا أن نتذكَّر دائماً أنه تماماً كما لا يجب أن نحكم على الكتاب من غلافه، لا يجب أن نحكم على الأشخاص من لهجاتهم. وفي كل مرة نشعر بتحيز لا إرادي ضد لهجة معيَّنة، علينا أن ندرك أن الأمر لا يتطلب منا سوى بعض “الجهد المعرفي”، الذي تحدث عنه عالِم النفس الأمريكي دانيال كانيمان في كتابه “التفكير بسرعة وببطء”، للعمل على التخلص من أي أحكام مسبقة أو قوالب نمطية حاضرة في أذهاننا والنظر إلى ما هو أبعد من وقع اللهجات المختلفة على آذاننا.

**حقوق النشر محفوظة لمجلة القافلة، أرامكو السعودية

المصدر: العربية.نت

Exit mobile version