لا يمرّ الماءُ نفسه في النهرِ مرّتين. متجددٌ هو الماء في كل لحظةٍ، هادئاً كان أو هادراً. بينما تنتصب الضفاف على امتداد مجرى النهر، تراقب جريانه لتتغذى عليه، وتهنأ به، وتأنس لموسيقاه، وتكتسب هيئتَها بظلالها الخضراء المنعكسة على مرآته. وكذا الكتابة بعلاقتها بالقراءة، فالكتابةُ ضفافٌ تهنأ بانتظارها، والقراءةُ نهرٌ جار!,طفلٌ فتّح عينيه في بيت رجلٍ إمام مسجد، وأمٍ ترى حدود العالمِ في مملكة بيتها وسعادة أبنائها. في منطقة “شرق” في حيٍّ صغير هو “فريج القضيبي”، ولاحقاً “فريج بورسلي”، درجت قدما الصبي كأقرانه بين المدرسة والبيت، ولعب الأطفال في “البراحة”، والسباحة وصيد السمك على شاطئ البحر.,لسنوات ظل جريان ماء النهرِ هادئاً يجرف أيام عمر الصبي. لكن عاصفةً طارئة تقاذفت قاربه حين قرأ أول روايةٍ في عمره وكان في الصف الثاني متوسط، في مدرسة “المتنبي”! يومها تفتّحت الدهشةُ بقلبه، شاهد حياةً لا تشبه حياته، وأناساً بشراً لا يشبهون أهله أو منْ حوله، وتعجّب، وهو الذي تربّى على رؤية البحرِ، بوجود نهرٍ مياهه متجمّدة، وفتاة فاتنة بشعر أشقر، وثورة عمّال، بينما العمال الذين يمرّون بالقرب من بيتهم فقراء وطيّبون، ولا يمكنه أن يتخيّل أنهم قد يقومون بثورة!,رواية “الأم” لـ “مكسيم غوركي – Maxim Gorky” بترجمة سامي الدروبي، كانت العاصفة الأولى التي عبرت مياه نهر “طالب” وهزّت قارب حياته. نبّهت قلبه لما على الضفاف من حيوات ملوّنة وغريبة وصاخبة، وكان قد سها بطفولته عنها. فجأة انعطف مجرى نهر الحياة، بقاربه واهتمام حياته! وحينها التقط نفرٌ يؤمنون بالقراءة والثقافة والفن، ويؤمنون أيضاً بالديموقراطية وقضايا الإنسان العادلة يد الصبي، وقد تلمّسوا اهتماماً طلَّ بعينيه ونبرة صوته. ومعهم وبتوجيهاتهم أبحر في ساحة الأدب الروسي، قصةً وروايةً وشعراً ودرساً ثورياً. ,خطفتْ فتنة القراءة قلب الصبي، وأغرم وجنَّ بها، وأدمن خلوته معها. ومن حينها صارت القراءةُ تؤثث لحظته وتلوّنها! وكان أن هزّته بقوة روايات ذاك المصاب بالصرع “دوستويفسكي – Fyodor Dostoevsky”، وفجّرت الدهشةَ في خفق قلبه: فكيف لإنسان أن يغوص في أعماق البشر، ويستخرج ويُعرّي هواجسهم ومخاوفهم وآمالهم؟ ومن أين تأتي القدرة الهائلة للغة لتجسّد ذلك؟ ولحظتها انشغل فكر الفتى الغض وباله، وطويلاً توقف أمام روايات دوستويفسكي وأعاد قراءتها؟! ,ما لبثت موجةٌ عابرة أخرى أن رجّت قارب طالب، وأخذته إلى ضفة “سيغموند فرويد – Sigmund Freud”. لكن، أي صدفة جمعت بين مراهقة فتى ضعيف، يعيش في بيتٍ كويتي صغير بقرب أمٍ لا تكاد تخلع اللون الأسود عن لباسها، ورجل دين متسامح يعمل إمام مسجد، ويدمن قراءة القرآن، والتحدث بقصصه. كيف لذاك الصبي أن يعيش بين يومه المعطّر بذكر الله، وكتابات عالم نفس نمساوي يهودي يفسر ويُحيل سلوكيات البشر بمسبباتها من الجنس والطفولة؟!,ظل القاربُ مُبحراً بالفتى، وظلت مياه القراءة المغوية تجري من تحته. أبحر صوب الأدب الأوروبي، مرَّ بعالم الروائي الفرنسي “أونوريه دي بلزاك – Honore de Balzac” وجال في مدن الإنكليزي “تشارلز ديكنز – Charles Dickens”، وعبر المحيط صوب صائد القصة القصيرة والحيوانات “إرنست همينغوي – Ernest Hemingway”، وصرخت بروحه نهاية رواية “عناقيد الغضب” لـ “جون ستاينبيك – John Steinbeck”، ورمى بمرساة قاربه يوم قرأ “رواية الروائيين كما وصفها جبرا إبراهيم جبرا”، “الصخب والعنف” للأميركي “وليم فوكنر – William Faulkner”. وإذا كان دوستويفسكي قد فجّر الدهشة في قلب الفتى فقد استولى فوكنر على إعجابه بجنون، وإلا كيف له أن يستنطق وعي الإنسان ويتكلم بلسانه؟! وحينها لم يكن الفتى ليعلم أنه سيحمل دوستويفسكي وفرويد وفوكنر في مركبه، ويظل مُبحراً معهم ولحين يأتي الراكب الرابع والأخير في قاربه؟!,• محاضرة قدمتها في معرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته الأربعين، بمناسبة اختياري شخصية العام الثقافية.,
طالب الرفاعي
المصدر: جريدة الجريدة الكويتية