تعود الذاكرة إلى بيتنا القديم في منطقة الشويخ السكنية (ب)، ففي عام 1962، تفتحت عيني على عالم الكتب، والسبب أنه كان لدى والدي، رحمه الله، مكتبة تضم نوادر الكتب والمجلات والجرائد القديمة، فهو قارئ جيد يقرأ كل شيء ويروي لي ما يدور في بطون هذه الكتب، وينصحنى دائماً بالقراءة، وأيضا لأن معظم رواد الدواوين التي يذهب إليها الوالد هم من الأدباء ورجال الأعمال المتذوقين للثقافة، وكان يحرص على اصطحابي معه للاستماع والاستفادة، ومن هذه الدواوين ديوان العم المرحوم سيد ياسين هاشم الغربللي، وديوان أستاذنا الأديب عبدالله زكريا الأنصاري، وكان ذلك في بدايات الستينيات من القرن الماضي.,ولم تكن فقط هذه الجلسات الأدبية تعقد في الكويت، بل نقلها أصدقاء الوالد في الصيف إلى لبنان الجميل، وأتذكر أنه كانت لهم تجمعات أدبية في مقهى “أبو الشامات” في بحمدون. وفي إحدى الأمسيات، جاء الكاتب العربي المعروف علي أحمد باكثير، وأهدى أصدقاءه الكويتيين عدداً من مؤلفاته، وكذلك كانت وجوه أدبية لبنانية كثيرة تحضر لقاءات الكويتيين.,أعود إلى حيث بدأت، وأتذكر أول كتاب اشتريته عام 1962 بنصف دينار من مكتبة النهضة، كتاب “من هنا بدأت الكويت” لمؤلفه الأستاذ عبدالله خالد الحاتم، واستفدت من مواضيع الكتاب، فهي تتحدث عن البدايات وأوائل الأشياء في الكويت، وفتح لي الكتاب آفاقاً ودروباً خصبة للبحث في تراث وتاريخ الكويت، فيما بعد.,بدأت مكتبتي الخاصة تكبر تدريجياً، ويزودني والدي بالكتب التي تتوافق مع سني في ذلك الوقت، لكنه منع عني روايات إحسان عبدالقدوس والقصص البوليسية! وعرفت السبب عندما كبرت.,عندما انتقلنا إلى بيتنا الآخر الجديد في الشامية، عام 1968، أصبح في البيت مكتبتان، الأولى لوالدي في غرفة خاصة، والثانية لي في غرفة أخرى، وشتان ما بين المكتبتين! فعندما أدخل مكتبة والدي كان لعابي يسيل على الكتب الكويتية القديمة النادرة والأعداد الأولى، فهي التي تهمني وتجذبني من أي كتب أخرى، لحبي للتاريخ والتراث الكويتي، وكان لابد من التخلص من الكتب العربية بالمبادلة مع الأصدقاء، للحصول على الكتب الكويتية. وزادت أعداد الكتب عندما أهدى لي الوالد نوادر الكتب الكويتية، وأصبح لدي مكتبة تراثية كويتية كبيرة ملأت الغرفة كاملة… وفكرت حينئذ في بناء مكتبة أكبر مساحة في فناء البيت، وتفضل مشكوراً الأخ صالح المذن المتخصص في بناء البيوت الكويتية على الطراز القديم بتنفيذ الفكرة، حسب المطلوب في الشكل الخارجي، كما في الداخل، بنفس البناء الكويتي القديم، من أخشاب “الچندل والباسچيل والبواري”، بطريقة هندسية جميلة! ووضعت يافطة عند الباب تشير تيمناً إلى تاريخ التأسيس للمكتبة الأولى عام 1962!,وأصبحت المكتبة الجديدة مزاراً للأصدقاء والضيوف والباحثين، والمكان المناسب لإجراء المقابلات والندوات الخاصة، وملاذي الجميل في الابتعاد عن صخب الحياة!,ولكن دوام الحال من المحال، فلقد رحل الوالد والوالدة عن دنيانا، وكثر عدد الأولاد، وكان يجب هدم البيت بالكامل لإعادة بنائه على الطراز الحديث، وفي مساحة أكبر، ولكن أبت نفسي أن أشاهد هذا المبنى التراثي يتهاوى أمام عيني، ولم يكن من سبيل إلا التفكير بنقله بواسطة “ونش” فوق شاحنة إلى رابطة الأدباء الكويتيين، بعد أخذ الإذن لوضعه في حديقة الرابطة، وأصبح مصلى، مع تزكية شاعرنا العزيز يعقوب السبيعي إماماً للمصلين. لكن، ومع تغيّر مجالس الإدارات باستمرار تحول المصلى إلى غرفة نوم للمستخدمين، ومازال موجوداً!,وأما الكتب، فوضعتها في السرداب!,وهذه قصة تطور مكتبتي القديمة “من طقطق إلى السلام عليكم”، على كلام الإخوة المصريين.,
د. عادل محمد العبدالمغني
المصدر: جريدة الجريدة الكويتية