فقد العراق ومعه العرب، اليوم، الشاعر الكبير مظفر النواب الذي عاش وتعايش مع جميع قضايا العرب من المحيط إلى الخليج، وكان قد ملأ النواب، فضاءات شعره بالدفاع عن المسحوقين في الوطن وانحاز إلى قضايا عربية حاضرة على الساحة كالقضية الفلسطينية، والمنسية منها كقضية عربستان الأهواز.
وتغزل النواب بدنيا العرب بأسلوبه العبقري في انحناءات قصائده الجريئة، فارضا نفسه على الأمة كأشهر شاعر ملتزم، تفاعل مع الجماهير بدلا من مغازلة الديكتاتوريات في وطنه، واشتهر وبرز بإبداعه في عصرنا الحاضر في نقل الشعر الفصيح من مقاهي المثقفين إلى الشارع العربي، الشعر باللهجة الدارجة إلى أوساط المثقفين.
وعليه لم يقف مظفر النواب عند باب الشعر الفصيح، ومن يعرف اللهجة العراقية يعرف جيدا مدى إبداعاته التي تغنى بها المطربون وصار يرددها أبناء العراق والأهواز والخليج من قبيل “البنفسج” و”مرينا بيكم حمد”، و”حن وأنا حن”، ناهيك عن قصيدته السياسية باللهجة الدارجة “البراءة”.
إلى ذلك يعترف معظم من روت قصائده أرواحهم المتعطشة، بأن النواب كان عبقرياً في شعره الشعبي والفصيح على حد سواء، واستطاع بذلك أن يحتل مكانة مرموقة في صدارة الأدب العربي الحديث.
مظفر النواب
مظفر عبد المجيد النواب من مواليد عام 1934م في الكاظمية ببغداد، من أسرة النواب الثرية المهتمة بالأدب، وكانت قد هاجرت إلى العراق من الهند، إذ كان أجداده عراقيي الأصل، أمراء في الهند، وعائلته هاشمية قرشية تنتسب إلى الإمام موسى الكاظم، هربت للهند منذ الفترة العباسية.
تعرض والده عبد المجيد النواب لهزّة مالية أدت به إلى الفقر، إلا أن مظفر ظل عزيز النفس، ودخل كلية آداب بغداد وتخرج منها، وبعد ثورة 1958م عيّن مفتشاً فنياً بوزارة التربية في بغداد، انتمى للحزب الشيوعي العراقي، ولما حمّ الصراع بين الشيوعيين والقوميين سنة 1863م، تعرض للمطاردة فهرب إلى الأهواز عبر مدينة البصرة المجاورة، محاولا الوصول إلى روسيا.
مظفر النواب يبكي على أبواب الأهواز
وبعد هروبه من وطنه الأم العراق، ينشد وصوله إلى وطنه المنسي الأهواز وما تعرض له في الطريق:
*في العاشر من نيسان بكيت على أبواب الأهواز
*فخذاي تشقق لحمها من امواس مياه الليل
*وأخذت حشائش برية تكتظ برائحة الشهوة
*أغلقت بهن جروحي
*لكن الناموس تجمع في خيط الفردوس
*المشدود كنذر في رجلي
*ناديت: اله البر سيكتشفوني
*وسأقتل في العاشر من نيسان
*نسيت على أبواب الأهواز عيوني
*وتجمع كل ذباب الطرقات على فمي الطفل
*ورأيت صبايا فارس يغسلن النهد بماء الصبح
*وينتفض النهد كرأس القط من الغسل
*أموت بنهد يحكم أكثر من كسرى في الليل
*أموت بهن تطلعن بخوف الطير الآمن في الماء
*إلى قسوة ظلي
*من هذا المتبتل في الليل بكل زهور النخل
*تتأجج فيه الشهوة من رؤيا النخل الحالم في الليل
*شبقا في لحم المرأة كالسيف العذب الفحل
*من هذا الماسك كل زمام الأنهار
*يسيل على الغربات كعري الصبح
*يراوغ كل الطرقات المألوفة في جنات الملح
*يواجه ذئبية هذا العالم لا يحمل سكينا
*يا أبواب بساتين الأهواز أموت حنينا
النخلة في عربستان كانت تنتظره
وصوله إلى عربستان الأهواز منحته فرصة ليسمع العرب بقضية عربية منسية، وقرأ على آذانهم ما لم يسمعوه من قبل، فأنشد يقول:
.. وعرفت بأن النخلة في عربستان
انتظرتني قبل الله
لتسأل إن كان الزمن المغبر يغيرها
قلت: حزنت
فأطبق صمت وبكى النخل
وكانت سفن في آخر شط العرب
احتفلت بصولي
ودعني النوتي وكان تنوخيا
تتوجع في اللكنة
قال إلى أين الهجرة
فارتبك الخزرج والأوس بقلبي
ومسحت التنقيط من الحدس لئلا يقرأني الدرب
وسيطر سلطان نعاس الصبح
فجاء الله إلى الحلم
وجاء حسين الأهوازي يفتش عن دعوته
جاء النخل
وجاء التعذيب
وجاءت قدمي الملوية في الطين
وزاغ الجوع
وطارت في عتمات القلب فراشات حمراء
وأشجان حزبية قد شحنت بالحزن وبالنار
نزلت إلى ذاتي في بطء
آلمني الجرح
مددت بساقي
خرجت قدمي كالرعب من الحلم
وكان لإبهامي عين حمراء
تحس برودة ماء الكارون
وهذا أول عربي في قائمة المسروقات
الوقوع بفخ المخابرات الإيرانية
وعندما وقع في فخ المخابرات الإيرانية “سافاك”، نقلته من الأهواز إلى طهران ولم تبخل في تعذيبه وهددته في النهاية قبل تسليمه إلى السلطات العراقية آنذاك، ألا يتسلل ثانية إلى الأهواز، فيقول الشاعر:
في طهران وقفت أمام الغول
تناوبني بالسوط و بالأحذية الضخمة
عشرة جلّادين
وكان كبير الجلادين له عينان
كبيتي نمل أبيض مطفأتين
وشعر خنازير ينبت من منخاريه
وفي شفتيه مخاط من كلمات
كان يقطرها
في أذني
ويسألني: من أنت؟
خجلت أقول له “قاومت الاستعمار فشردني وطني”
غامت عيناي من التعذيب
رأيت النخلة
ذات النخلة
والنهر المتجوسق بالله على الأهواز
وأصبح شط العرب الآن قريبا مني
والله كذلك كان هنا …
واحتشد الفلاحون علي …
وبينهم كان عليّ وأبو ذر …
والأهوازي ولوممبا …
أو جيفارا أو ماركس أو ماو …
لا أتذكر فالثوار لهم وجه واحد في روحي …
غامت عيناي من التعذيب، تشقق لحمي تحت السوط …
فحط عليّ رأسي في حجريه
وقال: تحمّل فتحملت
وجاء الحزب,وقال تحمل، فتحملت …
والنخلة قالت …
والأنهر قالت، فتحمّلت … تحملت …
وشقّ الجمع
وهبت نسمات أعرف كيف أفيق عليها
بين الغيبوبة والصحو
تماوج وجه فلسطين
فهذي المتكبرة الثاكل
تحضر حين يعذب أي غريب
أسندني الصبر المعجز في عينيها
فنهضت
وقفت أمام الجلاد
بصقت عليه من الأنف إلى القدمين
فدقّت رأسي ثانية بالأرض
وجيء بكرسي حفرت هوّة رعب فيه
ومزقت الأثواب علي
ابتسم الجلاد كأن عناكب قد هربت
أمسكني من كتفي وقال
على هذا الكرسي خصينا بعض رفاق
فاعترف الآن …
على هذا الكرسي …
اعترف الآن …..
اعترف الآن …..
اعترف..اعترف..
اعترف الآن
عرقت.
وأحسست بأوجاع في كل مكان من جسدي
– اعترف الآن
وأحسست بأوجاع في الحائط
أوجاع في الغابات وفي الأنهار وفي الإنسان الأول
اللهم …
– أنقذ مطلقك الكامن في الإنسان …!
توجهت إلى المطلق في ثقة
كان أبو ذر خلف زجاج الشباك المقفل
يزرع في شجاعته فرفضت
رفضت رفضت
وكانت أمي واقفة قدام الشعب بصمت
فرفضت …
ــ اعترف الآن
ــ اعترف الآن
رفضت
وأطبقت فمي، فالشعب أمانة في عنق الثوري
رفضت
تقلص وجه الجلادين
وقالوا في صوت أجوف
نتركك الليلة
راجع نفسك
أدركت اللعبة
في اليوم التاسع كفّوا عن تعذيبي
نزعوا القيد
فجاء اللحم مع القيد
أرادوا أن أتعهد
ألا أتسلل ثانية للأهواز
صعد النخل بقلبي
صعدت إحدى النخلات
بعيدا أعلى من كل النخلات
تسند قلبي فوق السعف كعذق
من يصل القلب الآن..؟؟
قدمي في السجن، وقلبي بين عذوق النخل
وقلت بقلبي: إياك
فللشاعر ألف جواز في الشعر
وألف جواز أن يتسلل للأهواز
يا قلبي! عشق الأرض جواز ..
وبعد أن سلم مخفوراً إلى الأمن السياسي العراقي، حوكم في المحكمة العسكرية التي حكمت عليه بالإعدام، وخفف الحكم إلى المؤبد نقرة السلمان الرهيب في الصحراء العراقية، ونقل بعد ذلك إلى سجن الحلة المركزي.
واستطاع مع سجناء سياسيين آخرين أن يحفروا نفقاً من زنزاناتهم يؤدي إلى خارج السجن، وهرب من السجن توّجه مع رفاقه للأهوار في جنوب العراق، ومكث هناك إلى أن أعفي عنهم 1969م.
وباشر بوزارة التربية كمدرس للغة العربية، ولكنه ترك التدريس مغادرا العراق إلى دمشق، وهناك بدأت رحلاته إلى عبر عواصم عربية وغربية عدة، ثم استقر ثانية في دمشق حتى عاد للعراق سنة 2011م، إلا أنه اختار في نهاية المطاف أن يشد الرحال إلى الخليج ليستقر في الشارقة بالإمارات العربية المتحدة حتى وفاته.
المصدر: العربية.نت